هو نوخذة من عصر اللؤلؤ.. ذلك الثائر التركي العنيد الذي لقّن الإسرائيليين وقوات النخبة درسا في عمق البحر مع مطلع الفجر، في مواجهة هم الذين اختاروا زمانها ومكانها، لكنه كان مستعدا لها بدون أي سلاح بل كان الطرف الآخر هم المدججين بالأسلحة التي كان مصيرها قاع المتوسط.
هناك في المياه الدولية كانت المواجهة التي قادها بولند يلدرم، ذلك المحامي التركي العنيد رئيس هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) ورئيس الحملة التركية لكسر الحصار، رجل استطاع — وبدون أن يكون ذلك هدفه — تحويل مدينته اسطنبول إلى عاصمة المجتمع المدني العالمي ومربط خيول العرب وميناء تهوى إليه أفئدة البحارة من كل صوب يريدون الانضمام إلى قافلته الثانية الحرية 2.
ولمن لم يعش عصر اللؤلؤ فإن شخصية النوخذة هو ربان السفينة، وصاحب الأمر والنهي فيها، لكن الأحداث التي واجهتها سفينة الحرية التركية التي أبحرت من اسطنبول صوب غزة جعلت من "بولند يلدرم" شخصية أكبر من مجرد نوخذة، قد يكون بلغة أهل الغوص هو "السردال" وهو أكفأ النواخذة وأقدمهم وأكثرهم خبرة ودراية في الحسابات وأماكن الهيرات وأعماقها والاتجاهات الصحيحة وعلى معرفة بالشمس والنجوم والعلامات الموجودة على الساحل.
على سفينة الحرية برزت شخصية بولند يلدرم وحكمته في إدارة معركة غير متكافئة بالموازين العسكرية لكنها بالمعايير الأخلاقية رجحت فيها كفة بولند ورفاقه. لم تكن معركة إسلامية يهودية كما يحلو للبعض أن يراها، فالنوخذة كان يحمل معه شخصيات من شتى الأديان بل واللادينيين، كلهم جمعهم حب الإنسان الفلسطيني الخاضع للاحتلال بحرا وبرا وجوا وجمعتهم الرغبة في رفع الحصار عنه.
كانت معركة إرادة، فـ "النوخذة" كانت تعليماته صارمة لرفاقه على متن سفينة الحرية: " لا نريد أن نقتل منهم أحدا نريد فلسطين، لانريد أن نخسر معركة بإزهاق روح حتى لو كانت يهودية، سيطروا عليهم وانتزعوا أسلحتهم وألقوا بها في اليم، عالجوا جرحاهم، لن ننتقم للشهداء، دافعوا عن أنفسكم، لاتوقعوا على تعهدات، لا تهزكم أسلحتهم، فلسطين ستعود وسينهزمون ".
لقد خرج بولند يلدرم ورفاقه من المعركة منتصرين وعندما اتهمه الإسرائيليون بأنه استولى على أسلحة قوات النخبة استهزأ بهم وأشار إلى قاع البحر وقال: " دونكم أسلحتكم هناك تصدر إشارات بإمكانكم انتشالها من قاع البحر"، نوخذة محبوب تركيا وعربيا وعالميا، رفض رفاقه أن يغادروا شواطئ فلسطين المحتلة إلا وهو معهم ليعودوا بروح عالية وبعزيمة أشد على تسيير سفينة الحرية 2 وبات مألوفا أن يستوقفه الناس في الطريق ويطلبون منه أن يسجل أسماءهم في قافلة الحرية الثانية بمن فيهم أسر الشهداء التسعة الذين سقطوا فداء لفلسطين.
اللقاء مع نوخذة سفينة الحرية تأجل أكثر من مرة بسبب انشغالاته ولقاءاته مع ممثلي المجتمع المدني العالمي والعربي والتركي ومع المسؤولين في الحكومة التركية، فالرجل قاد سفنا تركية ترفع العلم التركي وكونه يمثل المجتمع المدني إلا أن الدولة في النهاية هي التي تدير دفة معركة ما بعد المواجهة هي معركة دبلوماسية ومعركة توازنات، بينما يتولى بولند إدارة دفة الحراك المدني داخليا وعربيا وعالميا، وبسبب الوفود التي تتردد بلا انقطاع على مقر هيئة الإغاثة الإنسانية التي يرأسها والتي نظمت قافلة الحرية تم اللقاء الذي امتد ساعة ونصف الساعة في مقهى صغير ولم يتوقف إلا بإشارة من النوخذة بأنه قد أرهق وقال مازحا: إنه لم يتعرض لكل هذه الاستجوابات من الإسرائيليين... فإلى نص الحوار..
* السيد بولند دعنا نبدأ من آخر التطورات.. ماذا بعد أسطول الحرية؟
- أولا نحن نشكركم على حضوركم إلى تركيا لتسليط الضوء على هذه القضية.
أما بالنسبة لما حدث مع أسطول الحرية الذي كان ذاهبا في رحلة إنسانية إلى غزة، فان هذه القضية أصبحت اليوم قضية عالمية، وأصبحت قضية رأي عام عالمي، ونحن لن نترك هذا الأمر، فقد أصبح لنا 9 شهداء ومئات الجرحى، لكننا سنعطي فرصة لرؤساء الدول لحل هذه القضية، ولكن إذا لم تحل هذه القضية فإننا نفكر في أسطول الحرية الثاني، وهو سيكون أكبر بكثير من الأسطول الأول، واليوم هناك رغبة لدى مختلف شعوب ومنظمات المجتمع المدني في مختلف دول العالم للمشاركة في الرحلة الثانية، والتي لن تكون عشر أو عشرين سفينة، بل سيتجاوز العدد ذلك بكثير وسيكون محل استغراب العالم أجمع.
نحن اليوم ننتظر من زعماء العالم حل مشكلة غزة، وإذا لم يتوصلوا لذلك فان خيار أسطول الحرية الثاني سيكون هو السبيل لكسر الحصار على غزة.
* هل تم تحديد موعد انطلاق الرحلة الثانية؟
- لا أستطيع الإعلان عن الموعد القادم، لكن كل الأمور جاهزة، وسنعطي فرصة بضعة أشهر للتحركات الدبلوماسية وسننتظر الجهود العالمية وتحركات رؤساء الدول لحل المشكلة ورفع الحصار عن غزة، هناك اليوم فتح جزئي لمعبر رفح، حيث تدخل بعض المواد الغذائية لسكان غزة.
* نفهم أنه إذا فتح معبر غزة لن يتم تسيير سفن إلى غزة؟
- نحن نستهدف كسر الحصار على غزة، وإذا كانت التحركات إلى غزة عادية ويستطيع السكان أن يتحركوا في كل مكان عندها لن نسير رحلات، ليس من حق إسرائيل أو أي طرف فرض حصار بحري على غزة.
* هل هناك فترة زمنية محددة إذا لم تحل المشكلة ويرفع الحصار ستقومون بالرحلة الثانية؟
- ليس هناك فترة زمنية، ولكن حسب الأحداث العالمية، وسننظر ما سيفعله السياسيون، نحن في المرحلة الأولى قدمنا الشهداء، في المرحلة الثانية سيكون العقل والجرأة مصاحبين لهذه الرحلة العالمية التي ستكون الأكبر.
* هل ما جرى في الرحلة الأولى قدم لهم الجرأة أم أدخل إلى قلوبهم الخوف من الإقدام على الرحلة الثانية؟
- أقول لك أمرا.. اذهب إلى عوائل الشهداء واسألهم هذا السؤال.. اليوم عائلات الشهداء جميعهم يريدون المشاركة في الرحلة الثانية.. في الشارع ، الناس العاديون يوقفونني ويرجونني بأن أسجل أسماءهم في الرحلة الثانية.
* ما حقيقة أن هناك رغبات من مسؤولين أتراك وعرب بأن يكونوا ضمن الرحلة الثانية.. هل تلقيتم طلبات فعلية بذلك؟
- على الرحلة الأولى كان هناك مسؤولون وسياسيون، وفي الرحلة الثانية سيكون العدد الأكبر، فنحن في الرحلة الأولى اعتذرنا لعدد من السياسيين لظروف معينة، أؤكد أن الرحلة الثانية سيكون الأمر مختلفا، والعدد كبير سواء من المسؤولين أو العدد الإجمالي للمشاركين من مختلف دول العالم.
* ما حقيقة أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان سيشارك في الرحلة الثانية؟
- لا علم لدي بذلك.
* إلى الآن الأرقام متضاربة بالنسبة لعدد الشهداء.. ففي البداية قيل إنهم 16 ثم تراجع العدد إلى 9.. ما هو العدد الحقيقي للشهداء؟
- إسرائيل أعلنت في البداية أن عدد الضحايا 16 والسبب أنها كانت لديها قائمة بأسماء وصور المستهدفين بالقتل، ولكنها عندما دققت في صور الكاميرات اكتشفت أن الذين استشهدوا كانوا 9 فقط، فتراجعوا عن الأرقام التي أعلنوها في البداية.
* هذا يعني أن إسرائيل كانت متعمدة في ارتكاب الجريمة لاغتيال عدد من الشخصيات الموجودة على السفينة؟
- نعم، فالقائمة سقطت من الجنود خلال عملية الإنزال على السفينة، ورأينا الأسماء المستهدفة بالقتل، ولكن لم يتمكنوا من قتل كل من ورد بالقائمة من الأشخاص وقتلوا شبيها للشيخ رائد صلاح وهو عجوز تركي خرج من أجل فلسطين.
* قيل كذلك إن هناك عددا من الشهداء قد ألقوا بهم بالبحر.. هل هذا صحيح؟
- في البداية عندما بحثنا عن الجرحى ولم نجدهم اعتقدنا أنهم قد استشهدوا وتم إلقاؤهم بالبحر، لكن اكتشفنا في ما بعد أنهم قد نقلوا إلى المستشفيات، وحاولت إسرائيل في البداية أن تنفي وجودهم في المستشفيات، وقالت إنه لا علم لها بهم، لكن بعد إصرارنا على معرفة مكانهم أخبرونا بأنهم في المستشفيات.
* كيف بدأ العدوان الإسرائيلي على السفن؟
- أول التحركات الإسرائيلية بدأت عند الساعة الحادية عشرة والنصف حيث كانت السفن الحربية الإسرائيلية تراقبنا عن بعد من كل الجهات ولم نكن نراهم بالعين المجردة، إنما من خلال أجهزة الرصد الموجودة بسفننا، ثم تطور الأمر بمرور بعض الزوارق الإسرائيلية من أمام سفينتنا، وعند الساعة الثانية والنصف قلنا إن هؤلاء يريدون فقط إخافتنا دون الإقدام على عمل تجاهنا، فطلبنا من الجميع الذهاب للنوم، وفي الساعة الرابعة أذن للفجر، فقمنا للصلاة، وعند الساعة الرابعة والنصف أثناء استعدادنا لتأدية صلاة الفجر بدأوا بالاقتراب من السفينة، وظهرت فجأة الطائرات العمودية وخرج الغواصون، وبدأوا بإطلاق القنابل الصوتية والغازية والرصاص، وقبل الإنزال الجوي بدأوا بإطلاق الرصاص الحي علينا، ثم بدأوا الإنزال مع استمرار إطلاق النار، وهنا سقط لنا 9 شهداء و50 جريحا.
* هل بالفعل حدثت مقاومة على السفينة؟
- في البداية لم تكن هناك مقاومة، نظرا لوجود أعداد كبيرة على السفينة، ووجود نساء معنا كذلك، تفاديا لأي مبرر لإطلاق نار من قبل الإسرائيليين، ولم نكن نفكر أصلا أنهم سيطلقون النار، لكن عندما رأينا استمرار إطلاق النار، وأنه لا طائل من الوقوف حدثت بعض المقاومة، واستطعنا الإمساك بالجنود الإسرائيليين فعليا، لكننا لم نؤذهم وقمنا بإطلاقهم، وأخذنا أسلحة من الجنود لكننا رميناها في البحر ولم نستعملها ضدهم.
* لماذا لم تقوموا باستعمال الأسلحة التي أخذتموها من الجنود؟
- من أجل فلسطين، لأننا على الحق، وحتى لا نعطيهم أي مبرر لاستخدام السلاح، فلو استخدمنا السلاح الذي أخذناه منهم لربما أبادوا من في السفينة جميعهم.
* كيف كانت معاملة الإسرائيليين لكم منذ أن تمت السيطرة على السفينة وأخذكم إلى اشدود ثم إلى الاعتقال؟
- بدأوا أولا بتعذيب الجرحى، كل الجرحى بلا استثناء، كأننا في السجن، وفي المراحل التي مررنا بها كان هناك تحقير لنا، وتم وضعنا في سجن جديد، وتم إعطاؤنا أطعمة غير معروفة، نقوم حاليا بإجراء فحوصات للتأكد ما إذا كانت مضرة صحيا أو بها مواد ضارة بالإنسان، وننتظر ظهور نتائج هذه الفحوصات، لأن هناك من المعتقلين الذين تناولوا المياه التي قدمها الإسرائيليون لم يذهبوا إلى دورات المياه لمدة يومين كاملين.
* تعتقدون أن الإسرائيليين قد يكونون قدموا لكم أغذية سامة أو مضرة بالصحة؟
- نعم فقد أعطونا بعض الأغذية كالماء وبعض المأكولات من أجل إضعافنا، لكن مدى تأثير هذه الأطعمة على الجسم في المدى البعيد فإننا ننتظر نتيجة الفحوصات التي أجريناها بعد عودتنا.
* هل وقعتم على تعهدات بعدم قيامكم برفع قضايا ضد المسؤولين الإسرائيليين مستقبلا؟
في البداية عندما أخذونا إلى السجن بميناء اشدود أتوا لنا بأوراق تعهد للتوقيع عليها لكننا رفضنا ولم نوقع عليها، وعندما أصرت تركيا على خروجنا وعودتنا، أتوا لنا بأوراق مرة ثانية للتوقيع عليها وقالوا إن من لم يوقع لن يطلق سراحه، قمنا بالكتابة بهذه الأوراق أن إسرائيل دولة الإرهاب وتحتل أراض فلسطين ونحن لا نقبل ذلك أبدا.
لكننا لم نوقع أي تعهدات بعدم رفع قضايا على إسرائيل أو المسؤولين الإسرائيليين.
* هل تعتزمون رفع قضايا ضد إسرائيل أو المسؤولين الإسرائيليين؟
- نعم والمحامون بدأوا بذلك.. إسرائيل أساءت لنا وأخذت أموالنا والمساعدات التي كنا نحملها وأهانتنا.. كل الجرائم ارتكبتها بحقنا، سنقوم برفع قضايا في كل المحاكم سواء في تركيا في دول العالم المختلفة، وبالفعل بدأنا تحريك دعاوى ضد إسرائيل.
* إسرائيل ادعت ارتباطكم بتنظيم القاعدة وأنكم إرهابيون.. وهي اليوم لا تريد إعادة السفن التي تحتجزها؟
- إسرائيل تدعي كل شيء، ولو سألتها عن سفينة " تايتنك " لقالت إنها هي التي أغرقتها.. أستغرب جدا من ادعائها ارتباطنا بالقاعدة، فلو كان هذا صحيحا لقامت تركيا باعتقالنا.
* عندما بدأت المواجهة الإسرائيلية للسفينة في المياه الدولية هل قمتم بإبلاغ الجهات الرسمية التركية، وطلبتم حماية القوات التركية البحرية منها أو الجوية؟
- نحن وضعنا كاميرات لنقل كل ما يدور في السفينة إلى العالم كله من خلال المواقع الالكترونية أو الجهات التي ترغب بذلك، فالعالم كله كان يشاهد ما يدور في السفينة ويعرف أولا بأول بذلك، وحينما بدأت إسرائيل بمحاصرتنا أعلنا ذلك لكن لم يأت أي طرف لنا، ولم نكن نحن أو غيرنا حتى يتوقع بقيام إسرائيل بهذه الجريمة.
* لكن بالتحديد هل طلبتم حماية سلاح الجو التركي أو طلبتم تدخله؟
- قبل أن يبدأوا الهجوم على السفينة عند الساعة الرابعة فجرا قامت إسرائيل بقطع كل الاتصالات من السفينة إلى العالم.
* في الرحلة الثانية إذا ما عرضت دولة ما حمايتكم عسكريا هل ستقبلون بذلك؟
- كلا لن نقبل بذلك.
* لماذا؟
- لأننا نمثل جمعيات ومنظمات أهلية ومجتمعات مدنية، والذين سيكونون على ظهر هذه السفن فإنهم مستعدون لتقديم كل شيء.
* نتنياهو بعد اعتقال سفينة راشيل كوري واقتيادها إلى ميناء اشدود قال انظروا لم تحدث مصادمات مع هذه السفينة لأن الذين على ظهرها حضاريون من أوروبا، بينما من سبقوهم يقصد من على السفينة من الأتراك إرهابيون وفوضويون هم من تسبب بما حدث.. ما هو تعليقكم على ذلك؟
- طبيعي جدا ألا تكون هناك مقاومة في سفينة راشيل كوري لأن عدد من كان عليها قليل جدا ولا يقارن بمن على أسطول الحرية، الذي بلغ عدده 6 سفن، تحمل أكثر من 600 شخص كما أن الإسرائيليين قبل أن يبدأوا بعملية الإنزال قاموا بإطلاق النار واستمروا بذلك، وبالتالي هم من بدأوا بإطلاق القنابل والرصاص ولسنا نحن.
الأمر الآخر أن إسرائيل أتت إلى سفننا وهي تحمل قائمة من الأسماء مطلوب اغتيالها، ورأينا تلك القائمة المتضمنة الأسماء والصور والتي سقطت من أحد الجنود الإسرائيليين خلال عملية الإنزال، بمعنى أن القوات الإسرائيلية جاءت إلينا وهي تقصد مهاجمتنا عسكريا واغتيال عدد من الشخصيات التي كانت على السفينة، لذلك كان من الطبيعي أن تكون هناك مقاومة.
كانت إسرائيل تستطيع بسهولة السيطرة على السفينة دون استعمال الأسلحة، كان بمقدورها مثلا إيقاف المروحة التي تدفع بالسفينة ومن ثم إيقافها واقتيادها إلى ميناء اشدود، لكنها لم تفعل ذلك لأهداف أخرى، وفضلت استخدام النار وإطلاق الرصاص على الأبرياء والعزل من أجل إيجاد تبرير لقتل الـ " 16 " شخصا المراد اغتيالهم من قبل إسرائيل.
هناك في المياه الدولية كانت المواجهة التي قادها بولند يلدرم، ذلك المحامي التركي العنيد رئيس هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) ورئيس الحملة التركية لكسر الحصار، رجل استطاع — وبدون أن يكون ذلك هدفه — تحويل مدينته اسطنبول إلى عاصمة المجتمع المدني العالمي ومربط خيول العرب وميناء تهوى إليه أفئدة البحارة من كل صوب يريدون الانضمام إلى قافلته الثانية الحرية 2.
ولمن لم يعش عصر اللؤلؤ فإن شخصية النوخذة هو ربان السفينة، وصاحب الأمر والنهي فيها، لكن الأحداث التي واجهتها سفينة الحرية التركية التي أبحرت من اسطنبول صوب غزة جعلت من "بولند يلدرم" شخصية أكبر من مجرد نوخذة، قد يكون بلغة أهل الغوص هو "السردال" وهو أكفأ النواخذة وأقدمهم وأكثرهم خبرة ودراية في الحسابات وأماكن الهيرات وأعماقها والاتجاهات الصحيحة وعلى معرفة بالشمس والنجوم والعلامات الموجودة على الساحل.
على سفينة الحرية برزت شخصية بولند يلدرم وحكمته في إدارة معركة غير متكافئة بالموازين العسكرية لكنها بالمعايير الأخلاقية رجحت فيها كفة بولند ورفاقه. لم تكن معركة إسلامية يهودية كما يحلو للبعض أن يراها، فالنوخذة كان يحمل معه شخصيات من شتى الأديان بل واللادينيين، كلهم جمعهم حب الإنسان الفلسطيني الخاضع للاحتلال بحرا وبرا وجوا وجمعتهم الرغبة في رفع الحصار عنه.
كانت معركة إرادة، فـ "النوخذة" كانت تعليماته صارمة لرفاقه على متن سفينة الحرية: " لا نريد أن نقتل منهم أحدا نريد فلسطين، لانريد أن نخسر معركة بإزهاق روح حتى لو كانت يهودية، سيطروا عليهم وانتزعوا أسلحتهم وألقوا بها في اليم، عالجوا جرحاهم، لن ننتقم للشهداء، دافعوا عن أنفسكم، لاتوقعوا على تعهدات، لا تهزكم أسلحتهم، فلسطين ستعود وسينهزمون ".
لقد خرج بولند يلدرم ورفاقه من المعركة منتصرين وعندما اتهمه الإسرائيليون بأنه استولى على أسلحة قوات النخبة استهزأ بهم وأشار إلى قاع البحر وقال: " دونكم أسلحتكم هناك تصدر إشارات بإمكانكم انتشالها من قاع البحر"، نوخذة محبوب تركيا وعربيا وعالميا، رفض رفاقه أن يغادروا شواطئ فلسطين المحتلة إلا وهو معهم ليعودوا بروح عالية وبعزيمة أشد على تسيير سفينة الحرية 2 وبات مألوفا أن يستوقفه الناس في الطريق ويطلبون منه أن يسجل أسماءهم في قافلة الحرية الثانية بمن فيهم أسر الشهداء التسعة الذين سقطوا فداء لفلسطين.
اللقاء مع نوخذة سفينة الحرية تأجل أكثر من مرة بسبب انشغالاته ولقاءاته مع ممثلي المجتمع المدني العالمي والعربي والتركي ومع المسؤولين في الحكومة التركية، فالرجل قاد سفنا تركية ترفع العلم التركي وكونه يمثل المجتمع المدني إلا أن الدولة في النهاية هي التي تدير دفة معركة ما بعد المواجهة هي معركة دبلوماسية ومعركة توازنات، بينما يتولى بولند إدارة دفة الحراك المدني داخليا وعربيا وعالميا، وبسبب الوفود التي تتردد بلا انقطاع على مقر هيئة الإغاثة الإنسانية التي يرأسها والتي نظمت قافلة الحرية تم اللقاء الذي امتد ساعة ونصف الساعة في مقهى صغير ولم يتوقف إلا بإشارة من النوخذة بأنه قد أرهق وقال مازحا: إنه لم يتعرض لكل هذه الاستجوابات من الإسرائيليين... فإلى نص الحوار..
* السيد بولند دعنا نبدأ من آخر التطورات.. ماذا بعد أسطول الحرية؟
- أولا نحن نشكركم على حضوركم إلى تركيا لتسليط الضوء على هذه القضية.
أما بالنسبة لما حدث مع أسطول الحرية الذي كان ذاهبا في رحلة إنسانية إلى غزة، فان هذه القضية أصبحت اليوم قضية عالمية، وأصبحت قضية رأي عام عالمي، ونحن لن نترك هذا الأمر، فقد أصبح لنا 9 شهداء ومئات الجرحى، لكننا سنعطي فرصة لرؤساء الدول لحل هذه القضية، ولكن إذا لم تحل هذه القضية فإننا نفكر في أسطول الحرية الثاني، وهو سيكون أكبر بكثير من الأسطول الأول، واليوم هناك رغبة لدى مختلف شعوب ومنظمات المجتمع المدني في مختلف دول العالم للمشاركة في الرحلة الثانية، والتي لن تكون عشر أو عشرين سفينة، بل سيتجاوز العدد ذلك بكثير وسيكون محل استغراب العالم أجمع.
نحن اليوم ننتظر من زعماء العالم حل مشكلة غزة، وإذا لم يتوصلوا لذلك فان خيار أسطول الحرية الثاني سيكون هو السبيل لكسر الحصار على غزة.
* هل تم تحديد موعد انطلاق الرحلة الثانية؟
- لا أستطيع الإعلان عن الموعد القادم، لكن كل الأمور جاهزة، وسنعطي فرصة بضعة أشهر للتحركات الدبلوماسية وسننتظر الجهود العالمية وتحركات رؤساء الدول لحل المشكلة ورفع الحصار عن غزة، هناك اليوم فتح جزئي لمعبر رفح، حيث تدخل بعض المواد الغذائية لسكان غزة.
* نفهم أنه إذا فتح معبر غزة لن يتم تسيير سفن إلى غزة؟
- نحن نستهدف كسر الحصار على غزة، وإذا كانت التحركات إلى غزة عادية ويستطيع السكان أن يتحركوا في كل مكان عندها لن نسير رحلات، ليس من حق إسرائيل أو أي طرف فرض حصار بحري على غزة.
* هل هناك فترة زمنية محددة إذا لم تحل المشكلة ويرفع الحصار ستقومون بالرحلة الثانية؟
- ليس هناك فترة زمنية، ولكن حسب الأحداث العالمية، وسننظر ما سيفعله السياسيون، نحن في المرحلة الأولى قدمنا الشهداء، في المرحلة الثانية سيكون العقل والجرأة مصاحبين لهذه الرحلة العالمية التي ستكون الأكبر.
* هل ما جرى في الرحلة الأولى قدم لهم الجرأة أم أدخل إلى قلوبهم الخوف من الإقدام على الرحلة الثانية؟
- أقول لك أمرا.. اذهب إلى عوائل الشهداء واسألهم هذا السؤال.. اليوم عائلات الشهداء جميعهم يريدون المشاركة في الرحلة الثانية.. في الشارع ، الناس العاديون يوقفونني ويرجونني بأن أسجل أسماءهم في الرحلة الثانية.
* ما حقيقة أن هناك رغبات من مسؤولين أتراك وعرب بأن يكونوا ضمن الرحلة الثانية.. هل تلقيتم طلبات فعلية بذلك؟
- على الرحلة الأولى كان هناك مسؤولون وسياسيون، وفي الرحلة الثانية سيكون العدد الأكبر، فنحن في الرحلة الأولى اعتذرنا لعدد من السياسيين لظروف معينة، أؤكد أن الرحلة الثانية سيكون الأمر مختلفا، والعدد كبير سواء من المسؤولين أو العدد الإجمالي للمشاركين من مختلف دول العالم.
* ما حقيقة أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان سيشارك في الرحلة الثانية؟
- لا علم لدي بذلك.
* إلى الآن الأرقام متضاربة بالنسبة لعدد الشهداء.. ففي البداية قيل إنهم 16 ثم تراجع العدد إلى 9.. ما هو العدد الحقيقي للشهداء؟
- إسرائيل أعلنت في البداية أن عدد الضحايا 16 والسبب أنها كانت لديها قائمة بأسماء وصور المستهدفين بالقتل، ولكنها عندما دققت في صور الكاميرات اكتشفت أن الذين استشهدوا كانوا 9 فقط، فتراجعوا عن الأرقام التي أعلنوها في البداية.
* هذا يعني أن إسرائيل كانت متعمدة في ارتكاب الجريمة لاغتيال عدد من الشخصيات الموجودة على السفينة؟
- نعم، فالقائمة سقطت من الجنود خلال عملية الإنزال على السفينة، ورأينا الأسماء المستهدفة بالقتل، ولكن لم يتمكنوا من قتل كل من ورد بالقائمة من الأشخاص وقتلوا شبيها للشيخ رائد صلاح وهو عجوز تركي خرج من أجل فلسطين.
* قيل كذلك إن هناك عددا من الشهداء قد ألقوا بهم بالبحر.. هل هذا صحيح؟
- في البداية عندما بحثنا عن الجرحى ولم نجدهم اعتقدنا أنهم قد استشهدوا وتم إلقاؤهم بالبحر، لكن اكتشفنا في ما بعد أنهم قد نقلوا إلى المستشفيات، وحاولت إسرائيل في البداية أن تنفي وجودهم في المستشفيات، وقالت إنه لا علم لها بهم، لكن بعد إصرارنا على معرفة مكانهم أخبرونا بأنهم في المستشفيات.
* كيف بدأ العدوان الإسرائيلي على السفن؟
- أول التحركات الإسرائيلية بدأت عند الساعة الحادية عشرة والنصف حيث كانت السفن الحربية الإسرائيلية تراقبنا عن بعد من كل الجهات ولم نكن نراهم بالعين المجردة، إنما من خلال أجهزة الرصد الموجودة بسفننا، ثم تطور الأمر بمرور بعض الزوارق الإسرائيلية من أمام سفينتنا، وعند الساعة الثانية والنصف قلنا إن هؤلاء يريدون فقط إخافتنا دون الإقدام على عمل تجاهنا، فطلبنا من الجميع الذهاب للنوم، وفي الساعة الرابعة أذن للفجر، فقمنا للصلاة، وعند الساعة الرابعة والنصف أثناء استعدادنا لتأدية صلاة الفجر بدأوا بالاقتراب من السفينة، وظهرت فجأة الطائرات العمودية وخرج الغواصون، وبدأوا بإطلاق القنابل الصوتية والغازية والرصاص، وقبل الإنزال الجوي بدأوا بإطلاق الرصاص الحي علينا، ثم بدأوا الإنزال مع استمرار إطلاق النار، وهنا سقط لنا 9 شهداء و50 جريحا.
* هل بالفعل حدثت مقاومة على السفينة؟
- في البداية لم تكن هناك مقاومة، نظرا لوجود أعداد كبيرة على السفينة، ووجود نساء معنا كذلك، تفاديا لأي مبرر لإطلاق نار من قبل الإسرائيليين، ولم نكن نفكر أصلا أنهم سيطلقون النار، لكن عندما رأينا استمرار إطلاق النار، وأنه لا طائل من الوقوف حدثت بعض المقاومة، واستطعنا الإمساك بالجنود الإسرائيليين فعليا، لكننا لم نؤذهم وقمنا بإطلاقهم، وأخذنا أسلحة من الجنود لكننا رميناها في البحر ولم نستعملها ضدهم.
* لماذا لم تقوموا باستعمال الأسلحة التي أخذتموها من الجنود؟
- من أجل فلسطين، لأننا على الحق، وحتى لا نعطيهم أي مبرر لاستخدام السلاح، فلو استخدمنا السلاح الذي أخذناه منهم لربما أبادوا من في السفينة جميعهم.
* كيف كانت معاملة الإسرائيليين لكم منذ أن تمت السيطرة على السفينة وأخذكم إلى اشدود ثم إلى الاعتقال؟
- بدأوا أولا بتعذيب الجرحى، كل الجرحى بلا استثناء، كأننا في السجن، وفي المراحل التي مررنا بها كان هناك تحقير لنا، وتم وضعنا في سجن جديد، وتم إعطاؤنا أطعمة غير معروفة، نقوم حاليا بإجراء فحوصات للتأكد ما إذا كانت مضرة صحيا أو بها مواد ضارة بالإنسان، وننتظر ظهور نتائج هذه الفحوصات، لأن هناك من المعتقلين الذين تناولوا المياه التي قدمها الإسرائيليون لم يذهبوا إلى دورات المياه لمدة يومين كاملين.
* تعتقدون أن الإسرائيليين قد يكونون قدموا لكم أغذية سامة أو مضرة بالصحة؟
- نعم فقد أعطونا بعض الأغذية كالماء وبعض المأكولات من أجل إضعافنا، لكن مدى تأثير هذه الأطعمة على الجسم في المدى البعيد فإننا ننتظر نتيجة الفحوصات التي أجريناها بعد عودتنا.
* هل وقعتم على تعهدات بعدم قيامكم برفع قضايا ضد المسؤولين الإسرائيليين مستقبلا؟
في البداية عندما أخذونا إلى السجن بميناء اشدود أتوا لنا بأوراق تعهد للتوقيع عليها لكننا رفضنا ولم نوقع عليها، وعندما أصرت تركيا على خروجنا وعودتنا، أتوا لنا بأوراق مرة ثانية للتوقيع عليها وقالوا إن من لم يوقع لن يطلق سراحه، قمنا بالكتابة بهذه الأوراق أن إسرائيل دولة الإرهاب وتحتل أراض فلسطين ونحن لا نقبل ذلك أبدا.
لكننا لم نوقع أي تعهدات بعدم رفع قضايا على إسرائيل أو المسؤولين الإسرائيليين.
* هل تعتزمون رفع قضايا ضد إسرائيل أو المسؤولين الإسرائيليين؟
- نعم والمحامون بدأوا بذلك.. إسرائيل أساءت لنا وأخذت أموالنا والمساعدات التي كنا نحملها وأهانتنا.. كل الجرائم ارتكبتها بحقنا، سنقوم برفع قضايا في كل المحاكم سواء في تركيا في دول العالم المختلفة، وبالفعل بدأنا تحريك دعاوى ضد إسرائيل.
* إسرائيل ادعت ارتباطكم بتنظيم القاعدة وأنكم إرهابيون.. وهي اليوم لا تريد إعادة السفن التي تحتجزها؟
- إسرائيل تدعي كل شيء، ولو سألتها عن سفينة " تايتنك " لقالت إنها هي التي أغرقتها.. أستغرب جدا من ادعائها ارتباطنا بالقاعدة، فلو كان هذا صحيحا لقامت تركيا باعتقالنا.
* عندما بدأت المواجهة الإسرائيلية للسفينة في المياه الدولية هل قمتم بإبلاغ الجهات الرسمية التركية، وطلبتم حماية القوات التركية البحرية منها أو الجوية؟
- نحن وضعنا كاميرات لنقل كل ما يدور في السفينة إلى العالم كله من خلال المواقع الالكترونية أو الجهات التي ترغب بذلك، فالعالم كله كان يشاهد ما يدور في السفينة ويعرف أولا بأول بذلك، وحينما بدأت إسرائيل بمحاصرتنا أعلنا ذلك لكن لم يأت أي طرف لنا، ولم نكن نحن أو غيرنا حتى يتوقع بقيام إسرائيل بهذه الجريمة.
* لكن بالتحديد هل طلبتم حماية سلاح الجو التركي أو طلبتم تدخله؟
- قبل أن يبدأوا الهجوم على السفينة عند الساعة الرابعة فجرا قامت إسرائيل بقطع كل الاتصالات من السفينة إلى العالم.
* في الرحلة الثانية إذا ما عرضت دولة ما حمايتكم عسكريا هل ستقبلون بذلك؟
- كلا لن نقبل بذلك.
* لماذا؟
- لأننا نمثل جمعيات ومنظمات أهلية ومجتمعات مدنية، والذين سيكونون على ظهر هذه السفن فإنهم مستعدون لتقديم كل شيء.
* نتنياهو بعد اعتقال سفينة راشيل كوري واقتيادها إلى ميناء اشدود قال انظروا لم تحدث مصادمات مع هذه السفينة لأن الذين على ظهرها حضاريون من أوروبا، بينما من سبقوهم يقصد من على السفينة من الأتراك إرهابيون وفوضويون هم من تسبب بما حدث.. ما هو تعليقكم على ذلك؟
- طبيعي جدا ألا تكون هناك مقاومة في سفينة راشيل كوري لأن عدد من كان عليها قليل جدا ولا يقارن بمن على أسطول الحرية، الذي بلغ عدده 6 سفن، تحمل أكثر من 600 شخص كما أن الإسرائيليين قبل أن يبدأوا بعملية الإنزال قاموا بإطلاق النار واستمروا بذلك، وبالتالي هم من بدأوا بإطلاق القنابل والرصاص ولسنا نحن.
الأمر الآخر أن إسرائيل أتت إلى سفننا وهي تحمل قائمة من الأسماء مطلوب اغتيالها، ورأينا تلك القائمة المتضمنة الأسماء والصور والتي سقطت من أحد الجنود الإسرائيليين خلال عملية الإنزال، بمعنى أن القوات الإسرائيلية جاءت إلينا وهي تقصد مهاجمتنا عسكريا واغتيال عدد من الشخصيات التي كانت على السفينة، لذلك كان من الطبيعي أن تكون هناك مقاومة.
كانت إسرائيل تستطيع بسهولة السيطرة على السفينة دون استعمال الأسلحة، كان بمقدورها مثلا إيقاف المروحة التي تدفع بالسفينة ومن ثم إيقافها واقتيادها إلى ميناء اشدود، لكنها لم تفعل ذلك لأهداف أخرى، وفضلت استخدام النار وإطلاق الرصاص على الأبرياء والعزل من أجل إيجاد تبرير لقتل الـ " 16 " شخصا المراد اغتيالهم من قبل إسرائيل.